قصـة
ألــم وأمــل
الزمن قاهر لا يؤتمن ، والعمر رهين الزمن يمضي ، والإنسان سجين العمر ، يولد ومع ولادته تبدأ مسيرة الحياة ، ومنذ يرتعش جسده بالروح ، تبدأ حركة الفعل من أجل الإستمرار ، ومع الفعل تتواكب حالات التغيير ، حيث ينتقل الجسد من طور إلى طور ، وفي كل طور يتعرض للإجهاد والإنهاك ، وكلما تقدم العمر ، تزحف الشيخوخة بكل معاناتها ، لتسيطر على كل عناصر الجسد ، فترهقه بالأمراض ، حتى تقضي عليه وينتهي ، ويطويه الدى ويلحقه التراب ...
وهو يطوي حقاب عمره ، يلون دقائق ايامه بالمطالعة والكتابة ، بشكل مكثف ، وكأنه في سباق مع الوقت ، فإن لم يقطعه بفعل العطاء اليومي ، قطعه الوقت بحكم المضي ... ولكنه تعلم من الأيام ، كيف يستفيد من كل لحظة ، وأخذ من الحياة دروساً هامة ، دفعت به عن قناعة ، أن يبحر ما استطاع في عالم الفكر ، يحاكي الرؤى المستقبلية ، في صور جميلة من الأحلام العذاب ...
ذات ليلة ، بعد أن أفرغ شحنات فكره على الورق ، رفع نظارته عن أنفه ، ووضعها جانباً ، وأغمض عينيه ، ليريحهما من الجهاد المتواصل ، الذي يمتد لأكثر من ثلثي النهار والليل ، وأخلد للنوم العميق ، ليستيقظ مع الفجر ، على صوت المؤذن ، يرفع صوته بالتكبير ، إنه وقت صلاة الفجر ، ينهض كعادته ليقوم بواجبه الروحي ، ويحاول أن يتوضأ تمهيداً لدخول الصلاة ... لقد شعر بشيء ما يحجب الرؤية في إحدى عينيه ، في حركة لا إرادية ، قام بفك عينه اليسرى براحة يده، ثم نظر أكثر في محتويات المنزل ، لم ير الأشياء واضحة ، نادى على زوجته علها تقدم له العون ، وتضع شيئاً من الدواء في عينه ، ولكن الأمر لم يتغير ، فالضبابية تحجب الرؤية تماماً ...
استرجع في قرارة نفسه ، وعقد العزم متوكلاً على الله تعالى ، وصلى الصبح مطمئناً ، وحاول الركون إلى كتاب الله ، يتلو ما تيسر له من آياته ، فيما تبقى من رؤية في عينه اليمنى ، على أمل مراجعة طبيب مختص ، للعارض الذي فاجأة ، وحجب الرؤية في عينه اليسرى ... تناول الفطور الصباحي الخفيف مع زوجته ، التي ارتبكت لحاله دون أن تظهر له ، خوفاً عليه وتشجيعاً له ، بأن الأمر بسيط جداً ، لا يعدو كونه بعض الإرهاق ، وعليه أن يرتاح بعض الوقت ، ويهمل المطالعة والكتابة ، حتى تعود الرؤية واضحة في عينه ، احتسى كوب " الزهورات " ولكن على غير عادته ، فقد أخذته الأفكار بعيداً ، وراح يستعرض الكثير من الماضي البعيد فالقريب ، ويقارن الحاضر بما مضى ، ويوغل في رؤى المستقبل ، ويعود لفعل التجريب ، عله يخدع نفسه ويحس بالرؤية واضحة ، ولكن دون جدوى ...
أشارت عليه زوجته مقابلة طبيب مختص ، له خبرة واسعة في طب العيون وجراحتها ... وحزمت أمرها لمرافقته ، لكنه أبى عليها ، واستحسن الذهاب منفرداً ، ليس رفضاً لها أو هروباً منها ، إنما فعل العنفوان أبى عليه ذلك . فهو يشعر أنه ما زال في ريعان الشباب ، رغم بلوغه أعتاب الشيخوخة ، ويرفض أن يحس بالضعف الجسدي ، وهو الذي يجاهد ويكافح ليل نهار ، بكل ما أودعه الله له من معرفة وفكر وثقافة ، ليخدم مجتمعه ووطنه باسلوبه الذي يمارسه من خلال نشر الكلمة ، وإشاعة الوعي ... والدرب طويل جداً ، وشائك جداً، وعليه أن يجد السير ، ليحقق ما يصبو إليه ، أو شيئاً جزئياً من خطته التي رسم ...
على جناح السرعة ، اتصل بطبيب لجراحة العيون ، واتفق معه على موعد عاجل ، وفي الموعد المحدد ، كان بين يدي الطبيب ، يقوم بإجراء الفحوصات اللازمة ، وكانت المفاجأة ، فعينه اليسرى مصابة بالساد ، وعليه أن يخضع لعملية جراحية ، بحيث تستأصل العدسة الطبيعية ، ويزرع بدلاً منها عدسة اصطناعية ، ولا مفر عاجلاً أو آجلاً من ذلك ، ولا تنفع العلاجات الأخرى مهما كان نوعها ... ومما زاد الأمر سوءاً ، أن عينه اليمنى ، بدات تتأكسد ، وما هي إلا بضعة أشهر ، وتفقد الرؤية فيها كذلك ، بحكم امتلاء عدستها بالساد ...
وقع الخبر على رأسه وقوع الصاعقة ، وأصيب بدوار شديد ، ولكنه تمالك أعصابه ، ريثما يعود إلى المنزل ... خرج من عيادة الطبيب ، وهو يغوص في بحر من الأفكار ، وتتجاذبه عدة تساؤلات ، وراح يحس بانقبضات طارئة ، خوفاً من المجهول ، وما تخبئ له اليام المقبلة . لم يصب بوعكة صحية منذ طفولته ، ولم يدخل مستشفى ، ولم يخضع لعملية جراحية لحينه ، لقد اربك ، وأخذ منه الرعب مأخذاً ، وأصيب بانهيار عام ، لكن إيمانه الكبير بالله تعالى ، وشد عزيمته ، فتوكل على الله ، وسلم أمره له ...
في اليوم التالي اتصل بطبي آخر ، وخضع لفحوصات اخرى ، ولكن من خلال الآت حديثة ومتقدمة ، وكانت النتيجة واحدة ، لا بد من إجراء عملية جراحية ، والتأخير يزيد الأمور تعقيداً ... ولم يعد أمامه من خيار آخر ... رغم خوفه ، وافق الطبيب رأيه ، وقام بتجهيز نفسه ، وإنجاز المعاملات اللازمة ... وفي الصباح الباكر ، ذهب إلى المستشفى ، وبدخوله إليها ، أجريت الفحوصات اللازمة ، تحاليل للدم ، تخطيط للقلب ، صورة صدرية ، وتخطيط للعين المتأكسدة بالساد ... وفي اليوم التالي ، ايقظته إحدى الممرضات باكراً ، رغم أنه لم يخلد على النوم ، وبدأت تحضره لدخول غرفة العمليات ، وهو يحاول قطع الوقت بالتفكير بكل الأشياء ، وفي الوقت المحدد لإجراء العملية ، خرج من غرفته ممداً على سرير خاص ، مدعاً رفيقة عمره ، التي شدت من عزيمته ، داعيةً له بالشفاء ، وهي تخفي دموعها في محرمتها ...
في غرفة العمليات ، كان بانتظاره الطبيب الجراح ، وطبيب التخدير ، وعدد من الآت الجراحية الحديثة ، ونقطة الإضاءة الواسعة ، مما زاد من روعه . وبينما يتقدم طبيب التخدير منه ليحشر إبرته في إحدى عروق يده اليمنى ، كان هو يدعو الله ، ويتضرع إليه ، وذهب فيإغفاءة التخدير ، ليصحو بعد ساعتين ، وقد تملكه الألم في عينه اليسرى ، وهي مغطاة بشكل محكم ، والدوار يسيطر عليه ، وشريان بلاستيكي موصول بيده اليمنى من جهة وبكيس يحتوي " المصل " من جهة أخرى . وهو ممدد على السرير ، لا يقوى على الحراك ،ولا يرى من حوله إلا الضباب في عينه اليمنى ، بينما يسمع الكثير من الأصوات ، يحاول أن يتذكر أصحابها ، ولكن دون جدوى ، فيبكي بهدوء ، وتجري الدموع على خديه ، لتزيد من ألمه ... ورفيقة عمره ، تمسك يده براحة يدها ، وتنقل الدفء إليه ، وأولاده يحيطون به ، يحدثونه عن آخر ما نشر له في الصحف الصادرة هذا اليوم ، بينما وقفت والدته قرب رأسه ـ ةةقف والده إلى جنبها ، يرقبانه بعطف وحنان ، لم يشعر بهما منذ زمن طويل ... فخلد إلى النوم مطمئناً ، وهو يحاكي المستقبل برؤى جديدة ، وأحلام مميزة فريدة ... ويرن جرس الهاتف ، وينساب صوت أحد الأدباء ، مهنئاً بالسلامة يزف قبول عضويته لاتحاد الكتاب اللبنانيين ...