الطفل الموهبة
الطفولة ، كانت ولا تزال ، توحي دائماً بالبراءة والصدق ... وبالمفهوم الآخر ، فالطفولة يعني، بكارة الطقات العقلية ، وقمة القدرات الحسية ... وهذه المقومات ، نفتقدها كلما ارتبطنا، أكثر فأكثر ، بحدود الفكر المادي السائد ، والذي ارتضته البشرية لها ، قياساً عاماً للتقدم والحضارة...
في معترك الحياة ، تبرز أمامنا بعض الظواهر ، التي لا تخضع للأنظمة الطبيعية ، والتي لا نجد لها تفسيراً ، سوى إطلاق صفة العجائبية عليها ... سيما إذا كانت تقتصر بطولتها على الأطفال ...
حالة عصرية راهنة ، بطلها طفل في الثالثة من عمره ، يتصرف وكأنه في عمر متقدم إلى حد ما ... وقد برزت من خلال تصرفاته ، بعض الوقائع التي يرسم حولها المراقب ، عدة تساؤلات ، تدفعه دون أبطاء ، إلى التوجه بكل جوارحه ، نحو السماء شاكراً مكبراً ، قدرة الخالق التي تتجلى في قدرة خلقه ...
وضعته أمه بعد عملية قيصرية شاقة ، وكانت تحدث نفسها قبلاً ، متضرعة إلى الخالق ، أن يرزقها طفلاً ، يحقق لها كل ما تتمناه في شخصيته، إن من ناحية التكامل في الجسد ، وإن من ناحية الجمال المميز ، سيما الطاقة العقلية والقدرة الحسية... فأتى وليدها ، كما تمنت ، وعملت على رعايته وتربيته بأسلوب خاص ...
بلغ الطفل السنتين من العمر ، حينما بدأت تظهر على حركاته ، معالم أخرى ، لا تتطابق على سواه من الأطفال ، في مثل عمره ... مما لفت والدته أول الأمر ، كونه يبقى دائماً برفقتها ، إلى أن إمتدت القضية ، لتشيع في عند أكثر أفراد العئلة ... في هذه السن المبكرة ، حاولت والدة الطفل ، أن تدربه على النطق الصحيح ، فاستجاب لها بسرعة لافتة ... ثم عمدت إلى تعليمه ، بعض الأغاني الخفيفة ، والسائدة في المجتمع الذي تعيشه ، فاتجاب الطفل كذلك وحفظها ، بسرعة أيضاً ... بعدها أقدمت والدته ، على تلقينه الأحرف الأبجدية ، باللغتين العربية والإنكليزية ، مع ربط كل حرف باسم معين ، يدل الحرف الأول عليه ... وأيضاً استجاب الطفل ، إنما بشكل أكثر ... وهكذا راحت والدته تهتم به بشكل مكثف ومميز ، أمام المظاهر المميزة ، التي تتشكل منها معالم شخصيته ، في هذا العمر المبكر ...
في السهرات العائلية ، كان الطفل ومازال نجمها اللامع ، بحيث غدا إهتمام الجميع ، وتسليتهم ... يداعبونه ، يلاعبونه ، يسمعون إليه في كل كلمة ينبس بها ، وفي كل همسة تصدر عنه ، ليس من قبيل المحبة والعاطفة فحسب ، وإنما نظراً لما يتلمسونه من معالم الذكاء المميز لديه ... يحدثونه، فيبادلهم الحديث ، بشكل يختلف عن بقية الأطفال ، في مثل عمره ... يمتحنونه بتوجيه لأسئلة ، ويتدرجون بها من البساطة ، إلى الأقل بساطة ، فيجيب عليها ... يتبادلون الأحاديث المختلفة بين بعضهم ، وهو يستمع إليهم ، فيذهلهم عندما يكرر ما سمع منهم ... ويفغرون أفواههم ، عندما يسمعونه يتكلم إليهم ، عن أحداث وقصص مختلفة ، يخيل للسامع لها في الوهلة الأولى ، أنها من نسج الخيال الطفولي ... وفي الكثير من الأحيان، يردد ألفاظاً غريبة عجيبة ، وكأنها في مجموعها ، لغة أخرى ، إنما ليست محكية في هذا الزمن ...
في بيت ذويه ، مكتبة ضخمة من الكتب المختلفة ... اللافت في الأمر ، تعامل الطفل مع أي كتاب فيها ، بمنتهى الدقة والحذر ، وتصفح ما يستطيع تناوله ، وكأنه يلم بالقراءة ، بشكل متقن... ثم يعمد إلى إرجاع كل كتاب إلى مكانه بالضبط ... وإذا ما وجه له السؤال عما يفعل ، يأتيك الجواب سريعاً : " إقرأ " ... كيف ؟!... إنها الغرابة !!! وإذا ما أسمعه أحد أفراد العائلة ، كلاماً قاسياً ، مانعاً إياه من دخول غرفة المكتبة ، يتزرع قائلاً وبلغة الواثق الشجاع : " كل ما في هذه الغرفة هو لي وليس لأحد غيري ... وأنا أمنعكم من الدخول إليها ..."!!!
عندما يلهو في ألعابه ، يمارس الكثير من فعل الحركات ، التي تعكس قدرة حسية عالية لديه ، وبالتالي طاقة فكرية راقية ، لا تتوفر عند بقية الأطفال في عمره ... مع العلم إن ختيار الألعاب ، يتم من قبله وبشكل دقيق ، ولا يحب إلا التعامل مع الألعاب الموجهة لعمر أكبر من عمره ...
على صعيد آخر ، فإن الطفل في هذا العمر ، يمارس الرسم بشكل لافت ومميز ، إن بطريقة مسك القلم ، وإن بطريقة خطوات الرسم ، وكيفية التنفيذ على الورق ... هذا وهو يراقب كل ما حوله ، إنما بشكل معمق ...
عندما تصطحبه والته معها إلى السوق الشعبي ، لتجمع حاجياتها البيتية ، تراه يشغل من حوله بكثرة الأسئلة المميزة ... مما يلفت الإنتباه من الجميع مما يشاهدونه ... وتراهم يكبرون الخالق على ذكاء الطفل ...
وعنما يصطحبه أحد أفراد العئلة ، في رحلة معينة ، أو إلى قرية معينة ، تراه يراقب كل المعالم الطبيعية ، والبيوت والمنازل ، والمظاهر المميزة على طول الطريق ، من أنفاق وجسور ، ومحطات وغيرها... ليسرد على مسامعك كل ما احتوته ذاكرته، وبشكل دقيق ، لمجمل المعالم التي مرَّ بها...
في المدرسة التي أدخلته والدته فيها ، رغم صغر سنه ، شغل معلمته بشكل لافت ، بحيث وجدت نفسها أمام طفل مختلف عن بقية أترابه ورفاقه في صفه ... فاستدعت والدته لتستفسر عنه الكثير الكثير ، معللة حالته إلى أمر نادر ، ومستغرب في مثل عمره ... طالبة إليها اهتمام بالطفل بشكل دقيق...
إلى هذا ، فإن الطفل ، وفي عمر السنتين والنصف تقريباً ، قام بمغامرة مذهلة ، بحيث اصطحب عدداً من الأولاد ، والذين يكبرونه سناً ، وذهب بهم من حي إلى حي آخر ، يبعد كثيراً ، سالكاً الطريق الأقرب ، رغم تعدد الطرقات الموصلة، وكثافة الأبنية الموجودة ، ليصل إلى بيت أهله ، في جو من استغراب وذهول ذويه والناس الذين عرفوا وراقبوا الحالة ...
الأغرب من هذا كله ، أن الطفل ، يواظب على حضور برامج معينة على التلفزيون ، ليست لمثل عمره ، بل هي موجهة للكبار ، وعندما يوجه إيه سؤال الإستيضاح ، يقول :" أنا لست صغيراً " ... إضافة إلى حفظه لعدد واسع من موجات المحطات التلفزيونية ... وتراه ينجذب إلى كل الفلام والمسلسلات الخاصة بالزنوج ، متعاطفاً معهم ...
هذا عدا عن الكثير من الظواهر اللافتة ، والتي تمر بشكل يومي في حياة الطفل الأعجوبة ... فسبحان الذي خلق فسوَّى ... فوالدة الطفل كانت تتضرع للعلي القدير ، أن يهبها طفلاً على شاكلة والدها الأديب الفنان ، فأتى طيقاً لما طلبت من خالقها ، وكأنه طبق الأصل مستنسخاً ، إنما على صورة طفل ...