الشاعر " أفندم"*
آخر موضة !
في غمرة " فنطات" الإحتفالات " الخنفشارية " التي تقام في المنتديات العصرية تحت عناوين " طنانة، ورنانة " تفتقر قواميس اللغة لها ... دُعيتُ والعياذُ بالله لحضور حفل مميز جداً ... لتوقيع كتابٍ شعري لشاعرٍ من الرعيل الخليلي ، على الطريقة العصرية ... وطلب مني إلقاء كلمةٍ من وحي المناسبة ،وقدِّم لي برنامج الحفل المميز جداً ، وقدِّم لي أيضاً ديوان الشاعر لأتصفحه وأقرأه... كما دعي آخرون...
وفي الموعد المحدد ، حملتُ نفسي على مضضٍ ، بكل "قرفها"، بعد صياغة كلمةٍ متنافرة المعاني ، لا تمت لموضوع الحفل بصلة ، لا من قريبٍ أو بعيد ... ووصلت المكان باكراً ... مما سمح لي الوقت بتنفس الصعداء، قبل حشرِ نفسي على كرسي مزعجة ، كأنما ثبت فيها " خازوقاً " ممَّا جعلني أتململ ، بشكلٍ لافتٍ للنظر ، وبوقاحة قلّ نظيرها ... مما استدعى صاحب الدعوةِ مراراً ، لسؤالي عما يزعجني ؟ وكان جوابي فيه من المجاملة ما يقنع صاحبي ويريحه ...
وبدأ الحفلُ ، وصعد عريفُ الإحتفال إلى المنبرِ ، وأخذ يتلو بيانه المطرز بشتى أنواع العبارات وكأنها" طبيخ نور " جمع بأسلوبٍ التسولِ في " شقبان " من الصباح حتى المساء فخمَّ ونتنّ وفاح أريجه ، كما الروائح العصرية ، المنبعثة من مكب نفايات المرامل على طريق المطار ... وكان تعريفاً طويلاً جداً ... لساعات ...
ولم يكد ينهي صاحبنا تعريفه ، الذي كان على شاكلته ، ممَّا أزهق به روحي وأرواح الحضور ... ومما دفعهم للتدخين رغماً عنهم ، كمن أجبر على أكل فأرٍ ... وصعد المنبر المعرّف به ... الشاعر " أفندم " العصري ، وأفندم " بلا صغرة " لم أعرفه يقرضُ الشعر من قبل ، أو رجل منبرٍ على الأقل ... يرتدي بذلة بيضاء آخر طراز عرض في افخم محلات في شارع الحمرا ، قبة قميصه السوداء منشّاة ، مثنية من طرفيها ، ربطة عنقه الحمراء ، عقدت برخاوة واعتناءٍ ، وثبتت بدبوس مدببٍ ، ثم " بالكزلك " الكبير ، التقليدي ، والذي يقرص أرنبة أنفه ، وتتدلى من طرفيه عند الأذنين، سلسلة ذهبية تصل إلى جيب صدريته ذات الأزرار الكثيرة... ناهيك عن "الفوطة " الحمراء المثبتة في جيب " السترة " أو الجاكيت ... والكفِّ " النايلون " الذي يلبسه في يده اليمنى ، احتياطاً للسلام اليدوي ... والوسام المثبَّت عند ثنية جاكتته والذي لم أعرف ماذا يعني ... و"الباسطون" الرقيق الدقيق الذي يحمله من مقبضه المفضض المذهب ... والمضحك المبكي في آن معاً ، الوجهُ العابس " الذي يقطع الرزق " ولا يبتسم للرغيف " السخن " ... والشنبات العنترية التي إستطالت كثيراً ، في غير تناسقٍ مع لحيته الوبيلة ... التي وصل شعرها إلى نصف صدره العريض ...
تفرس " أفندم " الشاعر في وجوه الحضور من يمين القاعة إلى شماله ، ومن أولها لآخرها ، و" بحلق عينيه" من فوق " كزلكه" ومد يده إلى جيبه ، فسحب ورقة" كدش" سمراء قُدَّت من أوراق كيس ترابة ماركة " القلعة " المستوردة ، " وخبط " حافره في الأرض ، ودق الطاولة " ببسطونه " ورعد بصوته ، كأنه راع لقطيع من البغال الإنكليزية أو الحمير القبرصية أو الكدش المهرية... أو الثيران الهائجة ... "فنقز " من بالقاعة ، وأصيب البعض برهبة تبعث الوجل في القلب ... فبحلق الجميع عيونهم ... وسمّروها نحوه ... وهو " يجقورهم " ...
وانطلق شاعرنا ـ حفظه المولى ـ كما " كرندايزر " وراح "يزعق " في كلماته ... و" يعرُّ " في لهجته ... ويتحفنا بقصيدته التي " فقعها " لأحد الشعراء المشهود لهم ونسبها لنفسه " على عينك يا تاجر " ... دون خجل أو حياء ... والتي إدّعى نظمها على البحر الطويل جداً دون " زحزحة فيها " أو إختصار ... ملحمة طويلة دون قيودٍ أو ضوابطٍ ... ومن لا يعجبه فليمت في غيظهِ "وليطق " ... ولم يكد ينتهي من " فنطته " ، حتى سحب من جيبه ورقة أخرى ، وراح يخدش مسامعنا بشكل مميزٍ جداً بقصيدة أخرى على البحر الخبب الخليلي ... " شفطها " عنوةً لشاعرٍ معاصر ... وهكذا استرسل شاعرنا " أفندم " وطابت له وقفة المنبر... ولم يستح هلى دمه ، حتى صعد أحد الحضور إلى المنبر المرتفع و " وشوشه " ببعـض الكلماتِ ... فختم فضائحه "و فنطاته " شاكراً الحضور لسماعه ، ونزل عن المنبر ، وراح يسلم ويرمي تحياته على المحتفى به وعلى الحضور فرداً فرداً ، بشكل لافت للنظر قذر ووقح ... وكأنه في " منزوله " أو "زريبته"... حتى ضجَّ الحضور ، وأسمعه البعض نابي الكلام ، وجارح الألفاظ ... " فربخ " في مقعد جانبي يمسح براحتيه العرق المتصبب عن جبينه ... بعد " همروجته " المنبرية الشعرية ولصوصيته ... وهو " يكرع" الماء ...
والأغرب مما تقدم ، أن صاحبنا أفندم ، الشاعر المبدع ، كان في رفقته فرقة عملٍ ومرافقة " طويلة عريضة " أين منها فرق المرافقة التي نصادفها يومياً في طول البلاد وعرضها لأصحاب المقامات العالية ... " للشويشة " ... والتصوير الفوتوغرافي والتلفزيزني وتسجيل الوقائع في آلة تسجيل وآخرون يكتبون في الورق ...
إنها آخر موضة العصر في " الشفط واللظ " " إلقاء الشعر " وفي اللعبة اللصوصية المكشوفة و " الفقع " وسرقة إنتاج الأدباء والمفكرين والشعراء وغيرهم ونسبتها لأمثال " أفندم" تحت ستار الإقتباس ، وتبوء عالي الرتبِ ، وصعود المنابر و " التهويش " بما ليس في لهم ... فالغاية في قواميسهم تبرر الوسيلة ... وإذا لن تستح فافعل ما شئت ... لأن من يخجلون قضوا نحبهم وماتوا...وسادت حالة الهرج والمرج ... في عالم الفكر والشعر... وسادت قلة الحياء ...
* نشرت في صحيفة اللواء يوم الأربعاء 29 / 10 / 1997
في العدد 9123 صفحة 14 القسم الثقافي ـ عامود " كلمات " .